أسطورة الحجر الصامت: حكاية كجكا كزي Kecka Kezî

person محي الدين فقة
Story Image
كانت القرية تنام باكراً، لكنّ عيوننا نحن الصغار كانت تظل مشرعة على المجهول. في ذلك الزمان، لم تكن النجوم وحدها هي التي تسكن سماءنا، بل كانت هناك "كجكا كزي" (فتاة الضفيرة) تسكن حكاياتنا وتراقب خطواتنا من خلف ذلك الحجر العظيم.

على أطراف المقبرة، وبالقرب من بيت "سيد حسن"، كان يقبع حجرٌ ضخم، صامدٌ كأنه حارسٌ من زمنٍ سحيق. لم يكن حجراً عادياً، بل كان في مخيلتنا وحشاً ينتظر مغيب الشمس ليفرد أجنحة الخوف فوق بيوتنا. كان الكبار، بملامحهم الجادة ونبرات أصواتهم المحذرة، يزرعون فينا الرهبة:
"لا تقتربوا من الحجر ليلاً.. لا تخرجوا من عتبة الدار، فـ 'كجكا كزي' هناك، تترصد الصغار لتأخذهم إلى حيث لا عودة!"
كانت الحكايات تشتعل في جلسات النسوان، وهنّ يتهامسن بوجوهٍ شاحبة عن تلك المرأة الغامضة التي تظهر فجأة بجانب الحجر. يقولون إنها طويلة، رشيقة، وتحمل في يدها فانوساً خافتاً يشق عتمة الليل المطبق. لم يكن ضوء فانوسها للطمأنينة، بل كان فخاً يغوي العابرين.

كنا نتخيلها واقفة هناك، بجانب المقبرة، وشعرها الطويل المجدول (كزي) يتدلى خلفها، وعيناها تراقب الطريق المؤدي لبيت سيد حسن. في الليالي ، كنا نغطي رؤوسنا بالألحفة، ونتخيل أن صوت الريح ما هو إلا صدى لخطواتها فوق الحصى.

كبرنا.. واكتشفنا أن "كجكا كزي" لم تكن عدوة لنا، بل كانت وسيلة الكبار ليحفظونا من عثرات الطريق وظلام المقابر ومن أي سوء قد يصيبنا بعيداً عن أعينهم. كان ذلك الحجر الضخم هو "الحد الفاصل" بين أمان البيت ومجهول السفان والبرية.
اليوم، حين نتذكر ذلك الحجر، لا نشعر بالخوف الذي سكن قلوبنا الصغيرة، بل نشعر بحنينٍ جارف إلى تلك الأيام. لقد رحل الكثيرون، وتغيرت معالم القرية، وربما تفتت الحجر أو نُسي، لكنّ "كجكا كزي" وفانوسها لا يزالان يضيئان زاوية دافئة في ذاكرتنا.. ذكرى قرية لم تكن تعرف الزيف، وعاداتٍ جعلت من الحجر حكاية لا تموت
photo_camera radio