في سنة 1980، كنت في الصف التاسع. في ذلك الوقت، لم تكن الكهرباء قد وصلت لقريتنا بعد، لكن حياتنا كانت مليئة بالبركة والهدوء. كنا ندرس للامتحانات تحت ضوء "اللوكس"؛ ذاك المصباح الذي يعمل بالكاز .يجمعنا حول نوره الأبيض القوي في وسط عتمة الليل.
كانت الدراسة ممتعة رغم بساطتها، وكنا ننتظر لحظة السحور بفارغ الصبر. لم تكن هناك منبهات رقمية، بل كنا نراقب السماء جهة مدينة "ديريك". فجأة، نرى كتلة من اللهب تنفجر في السماء، إنه "الطوب" (مدفع السحور). وبعد ثوانٍ نسمع صوته القوي يتردد في الوديان، لتبدأ معه أجراس الساعات الكبيرة في البيوت بالرنين المتواصل: "جرررررررر".
في تلك اللحظة، كنت أتحول من طالب إلى "مسحراتي" متطوع. ألبس قميصي وبنطالي، وأعلق في رقبتي "تنكة حلاوة فارغة" ربطتها بحبل متين. أخرج إلى الزقاقات (الأزقة) الضيقة بين البيوت الطينية، وأبدأ بالنقر على التنكة بإيقاع جميل: "تنتتن.. تن تن".
كنت أجول في القرية وأهتف بكلماتنا الشعبية: "هي.. ها.. رابن باشيفه" (هيا استيقظوا للسحور). ولأضمن أن جيراني قد استيقظوا، كنت أضرب بقوة على أبواب بيوتهم المصنوعة من التنك (الصاج)، فيرتفع صوت الرنين في صمت الليل ليوقظ الجميع.
لكن المهمة لم تكن تخلو من المغامرة! ففي بعض الزقاقات المظلمة، كانت تكمن الكلاب. كنت أعرف أماكنها جيداً؛ فإذا اقتربت من بيت فيه كلب ، كنت أمشي بهدوء شديد ، وأحياناً أضطر لتغيير طريقي أو الركض بسرعة إذا سمعت نباحاً مفاجئاً، وقلبي يدق ارفع صوت التنكة.
اليوم، تغير كل شيء. نسهر تحت أضواء الكهرباء الساطعة، وننشغل بالإنترنت والموبايلات ، وتكفلت مكبرات الصوت في المساجد والمنبهات الذكية بإيقاظنا.
لقد تقدمنا كثيراً في التكنولوجيا، لكننا فقدنا شيئاً غالياً.. فقدنا تلك المحبة البسيطة التي كانت تجعل طفلاً يطوف القرية ليتأكد أن جاره لن يفوّت بركة السحور
سحور أيام زمان.. تنكة ومحبة Paşîv
محي الدين فقة