شتاء ١٩٨٢ – ١٩٨٣ | قرية كنكلو
في إحدى ليالي الشتاء الثقيلة، حين كان المطر يزخّ بغزارة كأنه يطرق الأرض بعصاه، وفي آخر الليل حيث لا صوت يعلو على هدير السماء، قُرِع باب دارنا الكبير، المصنوع من التنك وبراميل المازوت المهترئة.
كان القرع مختلفًا… ليس قرع عابرٍ تائه، بل قرع يعرف الطريق ويطلب الأمانة.
فهرع أبي مسرعًا،
واستيقظتُ أنا، طفلًا في المرحلة الابتدائية، على صوت أمي وهي تنادي بقلقٍ خافت:
«يا فلان… هناك من على الباب!»
فتح أبي باب الحوش،
وكان هناك رجلان من أهل القرية.
لا أذكر اسميهما الآن، ربما تختبئ الأسماء أحيانًا حين تكون الذاكرة مثقلة بما هو أثقل منها.
قالا لأبي بصوتٍ مختصر، لكنه مشبع بالمعنى:
«استلم الأمانة.»
كان واضحًا أن أبي كان ينتظر شيئًا ما.
حركاته في تلك الليلة، صمته، نظراته، كلها كانت تقول إنه يعرف… ويخفي.
دخل رجلان غريبان عليّ:
أحدهما قصير القامة، متوسط البنية،
والآخر طويل ونحيف، كأن الريح نحتته.
كانا يحملان بنادق رشاشة روسية بأخمصٍ مطوي،
وعلى خواصرهما دروع مزينة ببيوت الطلقات.
لم يكن المشهد غريبًا على بيتنا.
فكثيرًا ما كانت عناصر الپشمركة تتردد إلينا؛
بعضهم من أبناء عمومة أبي،
وبعضهم رفاق درب،
لكن وجوه هذين الرجلين كانت مختلفة…
فيها شيء من الغياب،
وفيها شيء من الوداع المؤجل.
سألتُ أبي ببراءة طفل:
«بابا… عمي محمد معاهم؟»
لم يجب.
كررتُ السؤال:
«هذول رفاق عمي محمد؟»
تنهد أبي…
تنهيدة ثقيلة، كأنها خرجت من صدر جبل،
ثم قال بهدوءٍ قاطع:
«لا يا بني… روح نام.»
تلك التنهيدة…
فهمتها بعد زمن.
فهمتُ أن أبي كان يعلم،
كان يعرف أن عمي محمد قد استُشهد في إحدى المهمات،
مع بعضٍ من رفاقه، في قضاء زاخو قرب جبل بيخير.
لكننا نحن… أهل البيت… لم نكن نعلم بعد.
هرعت أمي إلى مطبخها المتواضع،
تُحضّر العشاء للضيوف،
كما تفعل الأمهات حين يطرق الوطن بابها متعبًا.
وفي الصباح الباكر،
تمارضتُ كي لا أذهب إلى المدرسة.
كنت أريد أن أبقى…
أن أستفرد بالضيوف،
أن أقترب من الحكاية.
دخلت غرفة الضيوف،
فنادى عليّ أحدهم:
«تعال… ما اسمك؟»
قلت: «اسمي حمي.»
سألتهما دون مقدمات:
«أنتم رفاق عمي محمد، مو؟»
ساد الصمت.
لم يأتِ الجواب.
تكلم الثاني بلهجةٍ صورانية لم أفهمها،
فتدخل الأول وقال:
«أنا اسمي أحمد، وهذا رشيد.»
وبعد الظهيرة،
علمنا أن مجموعة كاملة من الپشمركة
كانت موزعة بين بيوت القرية،
كالنبض… لا يُرى لكنه حاضر في كل مكان.
أتذكر راديو صغيرًا،
كانوا يضعونه على آذانهم،
يبحثون عن إذاعة صوت كردستان،
تلك التي كانت تبث ساعتين فقط كل مساء
بين السادسة والثامنة.
كانوا يصغون…
وكأن الصوت يأتيهم من الجبال نفسها.
وعندما غادروا،
تركوا لي الراديو…
هدية صغيرة،
لكنها كانت أكبر من طفل،
وأثقل من ذاكرة.
في المساء،
كانوا يلعبون كرة القدم،
وكان من بينهم لاعبون من نادي دهوك.
ضحكاتهم كانت عالية،
لكن أعينهم كانت تعرف الطريق جيدًا.
ذلك الشتاء…
لم يكن شتاءً عاديًا.
كان شتاء الرجولة،
والمقدام،
والشجاعة التي لا ترفع صوتها
حيث تعلّمنا أن بعض الأبواب لا تُطرق إلا حين يكون الوطن بحاجة إلى رجال
قرية كنكلو
شتاء 1982 - 1983
قوافل البشمرگة
محمد جانكير