بينما كانت الشمس تبدأ بجمع خيوط الفجر من أزقة القرية، كان هناك عالم آخر يستيقظ على ضفاف نهر السفان؛ عالم "طاحونة كنكلو". لم تكن مجرد طاحونة لجرش القمح، بل كانت معزوفة من الماء والورد والمغامرة.
كانت المياه تندفع بقوة عبر الساقية (الجو)، محكومة بسدة دقيقة يتحكم فيها "الحاج أحمد" صاحب شاشكا صور ورجاله، لتدير حجرين عظيمين يسميان "الفراش". وفي قلب هذا الضجيج المنظم، كان صوت الـ "جقجقوك" هو نبض المكان؛ تلك الخشبة الصغيرة التي تدق على الحجر لتعلن للجميع، حتى للنائم بعيداً، أن الطاحونة بخير وتعمل بانتظام. وكان المعلم "محمد كري" هو جراح الحجارة، يمارس عملية "النكراندن" بدقة، يجرح الحجر ويسننه ليكون القمح طحيناً يفوح منه الخير.
لكن الأعجوبة الحقيقية لم تكن في الطحين وحده، بل في ذلك الشريط السحري الممتد لمسافة 400 متر بجانب الطاحونة. خط طويل من الورد الطبيعي بألوانه الثلاثة: الأحمر القاني، الأبيض الناصع، والوردي الخجول. كانت "كنكلو" تنفرد بهذا الجمال، ورائحته كانت قوية لدرجة أنها تسافر مع الريح لتصل إلى بيوت القرية البعيدة.
كنا نحن الصغار نستيقظ "بشكل لا إرادي"، تسحبنا رائحة الورد قبل أن توقظنا أمهاتنا. نركض نحو الطاحونة في عز الربيع، نقطف الورد بملء أيدينا الصغيرة، نملأ أحضاننا ونعود للبيت، والعجيب أننا مهما قطفنا، كنا نجد الورد في الصباح التالي قد أزهر أكثر وأكثر، وكأن الأرض تبارك لهفتنا.
لكن طريق الورد لم يكن مفروشاً بالأمان دائماً! فقد كان يسكن بين تلك الزهور عدوٌ لدود نسميه "طوري" (ابن آوى). ما إن نسمع عواءه المفاجئ حتى نلقي بالورود من أيدينا ونطلق سيقاننا للريح، هاربين من وحش الغابة الذي يفسد علينا خلوتنا بالجمال.
ولم يكن "طوري" وحده مصدر الرعب، بل كانت حكايات الكبار عن "الجن" في وادي الطاحونة (نوالا اشي) تزرع في قلوبنا رهبة لا توصف. لم نكن نجرؤ على الذهاب فرادى؛ فكل واحد منا كان يتشبث بزميله، نتلفت يمنة ويسرة، نجمع بين لذة قطف الورد وخوف الوقوع في قبضة "سكان الوادي" الخفيين.
حتى اليوم، يبقى السؤال لغزاً: من ذلك العبقري الذي زرع الورد بجانب القمح؟ ومن أين أتت تلك البذور التي لا تموت؟
طاحونة بورى تحتك Borê Tehttik
محي الدين فقة