رهان الخوف والربع ليرة

person محي الدين فقة
Story Image
في قريتنا، لم تكن الأيام مجرد ساعات تمر، بل كانت مغامرات محفورة بين أغصان الحور وشجيرات توت العليق. نهارنا يبدأ بضجيج السباحة في "نهر السفان"، حيث الماء يغسل تعب الركض، وينتهي في الأزقة مع صرخاتنا في ألعاب (جاف فشار توك) و(بيكا ميرا). ولكن، مع ميل الشمس نحو المغيب، كان للقرية وجهٌ آخر.

كان الآباء يتجمعون، يسندون ظهورهم إلى جدار طينيّ ، مستغلين ظله المتبقية. كنا نحن الصغار، رغم شقاوتنا، نقترب بحذر لنستمع إلى حكايات البطولات، ونكاتٍ تخرج من بين أدخنة سجائرهم وضحكاتهم ..

في ذلك اليوم، وبينما كنتُ أحاول الاستماع الى المجلس مع بقية جيلي، التفت إليّ المرحوم "محمد علي شوركي". كان في عينيه بريق دعابة يعرفها الكبار جيداً. ناداني بلقبي المحبب
"كيفك محي يى دلال؟"
أجبته برأسٍ مطأطئ وصوتٍ بالكاد يُسمع من فرط الخجل والهيبة على الرغم من انني كنت امسك يد ابي ونزور بيته ويدردشون القصص والحكايات واحيانا كان يطرق بابنا ليلا بعكازته ويجالس ابي وانا استمع اليهم
أنا بخير يا خال..
مدّ يده إلى جيبه وأخرج "ربع ليرة". كانت تلك الربع في عيوننا حينها تعني شراء اشياء كثيرة من"الدكان". رفعها أمام عينيّ وقال
تذهب الآن إلى هذه التلة (السيركوه)، المطل على الوادي لكن بشرط
تقف هناك، وتصرخ في وجه الوادي:
(تعالوا.. أنا لوحدي وأنتم اثنان.. لنتعارك) سأعطيك هذه الربع ليرة،
تلة "السيركوه"، تلك التلة التي تشكلت من مخلفات الحيوانات عبر السنين، كانت تقع في مكان حساس؛ تحت بيت المرحوم عثمان سينمى، وخلف بيت محمود سعيد وبيننا وبينها لا يتجاوز 100 متر . من فوقها ينكشف الوادي ببساتينه الصغيرة المحاطة بسياجات من أغصان الحور اليابسة، حيث يزرع الناس البصل والثوم والبطاطا، وتعتمد في شتائها على مياه الأمطار.
أكمل الخال محمد علي شرطه الذي جمد الدماء في عروقي
ساد الصمت لثانية. كانت هذه الجملة بالنسبة لنا ليست مجرد كلمات، بل هي "إعلان حرب" على سكان الوادي من الجن الذين نؤمن بأنهم يختبئون خلف الأشجار الكثيفة وفي ظلمات الوديان. تخيلتُ نفسي واقفاً هناك، والليل يزحف، والوادي الصامت قد يفتح ذراعيه ليخرج منه "الاثنان" المجهولان ليس فقط هذه المقولة فكانت هناك اكثر من مقولات تخيفنا
Şev li gund hate te
Dengê Deva tê
Dasik û werîs hatin te

نظرتُ إلى الربع ورقة التي تلمع بين أصابعه، ثم نظرتُ إلى وجوه الأطفال من جيلي الذين كانوا يراقبون وجهي ابتلعتُ ريقي، وشعرتُ بقشعريرة تسري في جسدي. رغم إغراء المال، ورغم رغبتي في أن أبدو -شجاعاً أمام اصدقائي، غلبني الخوف فقلتُ بصوتٍ يرتجف
والله يا خال.... ما بسترجي
بعطيك نص ليرة
والله يا خال ما بدي
بعطيك ليرة
والله يا خال ما بسترجي اخاف من الوادي
قلتها وأنا أخشى أن يسمعني الجن فيظنوا أني أتحدث عنهم، وخجلاً من الرجال الذين ضحكوا لتلك البراءة. لم أكن أعلم حينها أن الخال محمد علي لم يكن يريد إخافتي، بل كان يختبر أثر تلك "الحكايات التربوية" التي زرعوها فينا.

لقد نجحوا في جعل الوادي مكاناً مهاباً، ليس كُرهاً فيه، بل خوفاً علينا من أن تبتلعنا الأماكن المظلمة بعيداً عن عيونهم. عدتُ في ذلك المساء دون "الربع ورقة"، لكنني عدتُ بدرسٍ لم أنسه أبداً عن هيبة المكان، وحكمة الكبار التي كانت تحمينا بالخيال قبل الواقع
photo_camera radio